مريم الساعدي

غضضت بصري عن مرآها المُغري، وأغلقت فتحتي أنفي عن رائحتها المُسكرة، ومضيت في أيام معرض الكتاب الذي اختتم امس، دون أن أشتري كتاباً. هكذا قررت هذه السنة. فالكتب تكاد تطفح من مسام جدران بيتي. تتكدس على مدى أعوام حتى لم أعد أرى طريقي بينها. الكتب طفحت، وحين تطفح الكتب يعني أنني لم أعد أقرأ.

احترام الكتاب في قراءته، وليس فقط في اقتنائه. في بدايات الحياة كنت أحتقر أولئك الذين يزينون جدرانهم بالكتب، دون أن يقرؤوها، اعتبرتهم مدّعي ثقافة، واعتبرتها إهانة للكتاب أن تجعله مجرد أداة زينة في حين أنه روح وفكر ولسان وعين وإنسان كامل حاضر في بيتك يحدثك، وأنت تهمل الإصغاء إليه. كنت لا أضع كتاباً في المكتبة حتى أكون قد انتهيت من قراءته، كنت لا أهدي كتاباً لأحد حتى أكون قد قرأته أنا أولاً. كانت علاقتي فردية خاصة مع الكتاب، أعيش مع شخوصه وأحداثه، ولا أتركه حتى يقول لي كل ما لديه وكنت أصغي، بجوارحي. وكنا أصدقاء جداً، أصدقاء حميمين، كنا نحب بعضنا، وكان يقول لي حتى ما لم تقله أسطره، ويخصني بأسراره وأخصه بأحلامي وكل تلك الأمنيات. الآن صارت الكتب كثيرة، ومثلما هو الحال حين يكون لك أصدقاء كثيرون لا تحصيهم عدداً، لا يصبح لديك، في الواقع، أي صديق.

أدمنت عادة الشراء في كل معرض، ومع الكثرة والتكديس تتماهى القيمة الفردية للكتاب. لم يعد لدي وقت، ما بين العمل ومشاغل الحياة اليومية وذلك المزاج الذي تأخذه الريح في الشرق حيناً والغرب أحياناً، بالكاد أستطيع اقتطاع بعض الوقت للقراءة. أراها أمامي،على طاولة المكتب، على أرفف المكتبة، في صناديق تحت السرير، بجوار النافذة، فوق الدولاب، تحت الأغطية، الكتب، كلها تتطلع إليّ، بعينين معاتبتين، تريدني أن ألتفت إليها، فأمسك هذا، وأبدأ بذاك، وأنتقل للآخر، وخشيتي من ضياع الوقت تسبب لي التوتر، ويمضي الوقت، تمر الأيام، والشهور، وبين معرض الكتاب السابق والمعرض الحالي مضى عام كامل، اثنا عشر شهراً كاملاً، 365 يوما، ولم أقرأ بعد ما اشتريته في المعرض السابق، والذي قبله. وحتى الكتب التي قرأتها فأنا لم أنه كتاباً منها كما ينبغي. أقرأ أحدها ونظري على الأكوام أمامي، أريد الانتهاء بسرعة منه لأنتقل للثاني، فيشعر الكتاب بين يدي بعدم إخلاصي في الإصغاء له، ويعتب علي، فأنهيه ويرحل دون أن يترك في ذهني حرفاً منه ودون أن يترك في قلبي قبساً من نور كلماته.

ما هكذا تؤتى الكتب.

الكتب مثل الناس؛ حين تتعرف على أحدهم، فاحرص أن تراه جيداً وتسمعه وتمنحه مساحة من قلبك يثريها بوجوده الخاص ويزرع فيها أزهاراً تمنح نبض قلبك عبقاً أقوى يجعل طريق حياتك أحلى. أن تمشي في طريق تحيطه الورود يعني أن تحيا في حديقة، والحدائق نزهة الروح، نعمّر حدائق حياتنا بالناس الأصيلين رفاق الحياة وبالكتب الصديقة.

إذا اشتريت كتابا، فاحجز له موعداً في جدول يومك. قل أنك اليوم مشغول على موعد غداء مع صديق. وأذهب إليه، إفتح غلافه، وتلق الكلمات الأولى ولا تتركه حتى يقول لك كل ما لديه. حين تنتهي ستشعر أنك اختلفت. أنك صرت أغنى، وأكبر، وأقوى وأكثر إقبالاً على الحياة. ستشعر بأن دفّة القارب صارت بين يديك، وأنك اليوم ستجدف بشكل أكثر مهارة في أمواج الحياة

– الاتحاد