علي أبو الريش
الحنين، جين الوراثة السيكولوجية، كأس الهوى المملوء بفراغ الأحلام الطارئة، المخضب بلون الذاكرة، المخضوضة بالأفكار.. فما الحنين؟ تحن إلى منزل، عشقت فيه، الجدران، وصور الخلان، وتعرفت فيه على أول عصفور حط على غصن اللوز، وتحن إلى منزل شربت في غرفته المشدودة إلى النافذة، أول فنجان قهوة مع حبة تمر.
تحن إلى زقاق تعرفت فيه، على رائحة ثوب نقش بابتسامة أنثى مرت مع النسيم، كما تمر أوراق التوت المخطوفة شوقاً، تحن إلى رفاق صبا، كانوا هنا في الذاكرة، فاغتالهم الضجيج حتى صاروا كصرير في جدران الرأس.
تحن إلى شارع أبكاك كثيراً، حين كان البكاء لوعة وجودية مبهمة، حين كان الشارع ملك الأحداق والأشواق، والعشاق.. تحن إلى زميل دراسة سرقته العواقب، والنواكب والمثالب، وما خض الفكرة من سواكب ومخالب، وشوائب.
تحن إلى خوفك القديم من قطة سوداء كانت تراقب يديك المملوءتين بلقمة العيش، وكنت ترتجف وترمي بقلبك في كنف الأم الرؤوم.
تحن إلى طائر النورس الذي كان يزخرف البحر، بأجنحة الشموخ، ومنقار أشبه بأزميل البحث عن جوهرة الماء.
تحن إلى حمار بائع الماء، يوم كانت أجراس عنقه توقظ العطشى، فيهرعون للارتواء من قطرات متدفقة على جبين أبي صابر المتعب، تحن إلى لحظة تأملك، على ساحل الوله يوم كان البحر قصيدة منثورة مزينة بقافية الموج.
تحن إلى بلد سافرت إليه لأجل الاغتراف من عيون المها، فكانت المنبع والمرتع، والمرفع، والنجم الذي درت في فلكه حتى حفيت قدماك، وعدت بحنينك المذهب بخرز اللقاءات الأولى.
تحن إلى بستان النخل الذي أصبح يباباً بعد خضاب وإخصاب، تحن إلى حبل البيدار الذي كان قلادة في نحر النخلة الوارفة، تحن إلى قرية مغسولة بالتراب، مروية بأقاصيص الأولين، محفوفة بجفاف العواطف المبشرة.
تحن إلى مواعيد في الظلام، كانت تنز بالعرق مشلولة بالخوف الرهيب، تحن إلى لعبة «العظيم» إذ كانت العظام تتلاصق وتتلاحق، كأنها جريد «العريش» الذي خرجت من بابه متلصصاً كأرنب مرعوب.
تحن إلى وجه امرأة عجوز، كانت تجلب الخرافة، حقيقة على لسان البلاغة الفطرية، فترجك الحكاية، كسعفة في وجه الريح.
تحن إلى صور، نسيتها في أدراج غربتك، حتى عاد المشهد بالأبيض والأسود، كافتراق الليل والنهار أو صوم البحار عن المد.
تحن إلى أول رسالة كتبتها ملفوفة بالشوق، والحرقة الجِبلية، تحن إلى أشيائك التي ضاعت، وأنت في الطريق إلى اعتناق فكرة جديدة.
تحن إلى أغنيات حفظتها حتى نسجت خيوطها كأشعة الشمس، تحن إلى شاعر مثل أحمد راشد ثاني الذي لا يغيب حتى يحضر، فيؤجج فيك المعنى، ويسرد حكاية الموت.
– الاتحاد