علي عبيد
رغم أنني شاهدت الكثير من الأفلام المصرية، منذ مرحلة الأبيض والأسود، وأبطالها المعروفين، أمثال سراج منير وإسماعيل ياسين، ورغم أنني شاهدت الكثير من المسرحيات المصرية، منذ مرحلة عادل خيري وماري منيب، اللذين شاهدت مسرحياتهما على شاشة التلفزيون، وليس المسرح بالطبع، ورغم أنني تعلمت على يد مدرسين مصريين أفاضل في الإمارات، وواصلت تعليمي الجامعي في مصر العزيزة..
رغم كل هذا، إلا أنني لم أسمع يوماً أن المصريين يتوجهون في صلاتهم إلى دبي، قبل أن يفاجئنا مسؤول مصري رفيع، قبل أيام، بخطبة قال فيها إن الإسلاميين في مصر قد حولوا قبلتهم في مناسبة تحويل القبلة، وإنهم لن يصلّوا بعد اليوم إلى دبي، لأن مصر توجهت إلى الإسلام!
لو أن هذا الحديث صدر عن إنسان عادي من عامة الناس، لتقبلناه بصدر أقل ضيقاً، واعتبرناه نوعاً من الفكاهة وخفة الدم التي عرف بها الإخوة المصريون، ولكن أن يصدر هذا الحديث عن مسؤول رفيع في وزارة الأوقاف المصرية، يرتدي الزي الأزهري المميز والمعروف، فإن الأمر يتعدى خفة الدم التي ليس هذا مجالها.
فحين يقف جمال عبدالستار، وكيل وزارة الأوقاف المصرية، في مليونية “لا للعنف” التي نظمها بعض أعضاء التيار الإسلامي، لمناصرة الرئيس مرسي، ليقول: “الإسلاميون حولوا القبلة في مناسبة تحويل القبلة، ولن نصلي بعد اليوم إلى دبي، أو واشنطن، ولن نتوجه إلى الشرق أو الغرب، فمصر توجهت إلى الإسلام”، حين يقف مسؤول ذو منصب رفيع في الوزارة التي كانت تصدّر الأئمة والخطباء إلى العالم الإسلامي كله، ليؤكد أنه وجماعته سيقاتلون من أجل استمرار رئيسهم في الحكم، فإن دبي، والإمارات عموماً، تبقى خارج السياق، لأنها ليست معنية ببقاء الرئيس مرسي، أو رحيله، فدولة الإمارات منذ أن وضع لبناتها الأولى، المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وإخوانه المؤسسون، طيب الله ثراهم جميعاً، وهي تنتهج سياسة عدم التدخل في شؤون الغير.
وبقاء رئيس أو رحيله، في دولة عربية أو غير عربية، شأن داخلي بحت، لا علاقة لدولة الإمارات والإماراتيين به.
لقد سمعنا على مدى الشهور الماضية، منذ أن اعتلى “الإخوان المسلمون” سدة الحكم في مصر، العديد من الإهانات والاتهامات التي توجه إلى دولة الإمارات، لعل أشهرها حديث “عصام العريان” الشهير تحت قبة مجلس الشورى، وهو الحديث الذي استنكره الإخوة المصريون قبل الإماراتيين، وردوا عليه الرد المناسب، ووضعوه في إطاره الضيق المحدود.
وهي إهانات واتهامات يعرف المصريون والإماراتيون حجمها وحجم من يطلقها، ويعرفون دوافعهم ونظرتهم الضيقة التي لا تتجاوز مصلحة “الجماعة” التي ينتمون إليها.
ولكن حين يقف وكيل وزارة الأوقاف المصرية، مرتدياً زي الأزهر الشريف، الذي يمثل الاعتدال والوسطية اللذين عرفت بهما هذه القلعة الحصينة، ليقول لإخوتنا المصريين: “لن نصلي بعد اليوم إلى دبي”، فإنه يثير امتعاض المصريين أكثر مما يثير امتعاض الإماراتيين، لأن الإماراتيين يعرفون الشعب المصري معرفة جيدة، ويعلمون أن هذا القناع الذي ترتديه مصر اليوم هو قناع زائف، من صنع “جماعة” انكشفت حقيقتها، وعرف المصريون، قبل غيرهم، أهدافها ومراميها، ورأوا بأم أعينهم تعطشها للسلطة، بعد أن كانت تدّعي أنها جماعة دعوية، تسعى إلى إصلاح المجتمع، وإعادته إلى الإسلام الصحيح، هذا على فرض أن المجتمع قد فسد وانحرف، ولم يعد مجتمعاً مسلماً، وفق رؤيتها.
والدليل على تعطشها للسلطة وتمسكها بها، هذا التحالف الذي أقامته مع رموز الجماعات الجهادية التكفيرية، التي سفكت الدماء وروعت الآمنين في مصر على مدى العقود الماضية، ثم عادت فادّعت أنها راجعت أفكارها، وغيرت منهجها، وأعلنت توبتها، وخرجت من السجون مع من خرج وهرب منها بعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، لتعود ترينا وجهها القبيح الذي لم يتغير، وتهدد من جديد بالقتل والسحق، وتكفِّر من يختلف مع فكرها ونهجها، وتمارس هذا علانية على الأرض.
سوف تبقى دبي والإمارات قبلة للمصريين، مهما حاول الطارئون أن يحولوا هذه القبلة، ومهما اجتهدوا كي يصمموا للشعب المصري قبلة جديدة وبوصلة من بنات أفكارهم وتوجهاتهم.
وسوف تبقى مصر قبلة للإماراتيين، مهما حاول هؤلاء الطارئون أن يقيموا حاجزاً بينهم وبينها، فمصر ليست ملكاً لفئة أو جماعة أو فصيل بعينه.
مصر أكبر من كل الفئات والجماعات والفصائل، مصر ملك للعرب والمسلمين جميعاً.. مصر بوصلة العرب والمسلمين، وحين تختل بوصلة مصر، تختل بوصلة العرب والمسلمين كلهم. وبوصلة مصر هذه الأيام مختلة، يوجهها فصيل منفصل عن تاريخ مصر وحضارتها ودورها الكبير الذي يبدو أن هذا الفصيل لا يستطيع أن يستوعبه، لأنه عاش تحت الأرض سنوات طويلة، والذين يعيشون تحت الأرض كل هذه السنوات يفقدون القدرة على الرؤية حين يخرجون إلى النور.
والذين يحكمون مصر هذه الأيام، ويزعمون أنهم يمثلون مصر، ويتحدثون باسم مصر، هم من هذا الفصيل المنفصل، ليس عن واقع مصر فقط، وإنما عن واقع الأمة. لكن الأمل في عودة مصر إلى نفسها وأمتها ودورها تلوح تباشيره، وقد عودتنا مصر على لفظ الطارئين عليها، لأنها قبلة العرب والمسلمين جميعاً، ومهوى أفئدتهم
– البيان