ياسر حارب
كنتُ أشاهدُ برنامجاً على إحدى القنوات الإماراتية حضَرَتْ فيه مجموعة من الفتيات للحديث عن مشروع ما. كان الحوار جامداً جداً، وكلما أراد المذيع أن يلطف الأجواء بطرفة أو بتعليق، كانت الفتيات يزددن تزمّتا وتَخَشُّباً على المقاعد؛ في محاولة للسيطرة على مشاعرهن وعدم الضحك. وعلى رغم امتداد البرنامج لساعة تقريباً، إلا أنهن لم يفقدن «هيبتهن» ورصانتهن أمام المشاهدين، ولم يفتهن أن يلبسن أغلى الساعات وينتعلن آخر الأحذية ذات الماركات العالمية.
وفي إحدى المناسبات الوطنية، كان الحضور فيها يزيدون على ألف إماراتي تقريباً، لم أكد أسمع لهم صوتاً؛ فالكل كان مشغولًا بالتأكد من أن لبسه على ما يرام، فالرجال منهمكون في «تضبيط» غترهم، والنساء لا يهدأن يفككن «شيلهن» ويُعِدْنَ لفها حول رؤوسهن، مرة كل بضع دقائق.
وقبل أيام زارني صديق خليجي، وفي خضم حديثنا سألني: «ما سرّ الانطوائية عندكم في الإمارات؟» حيث تساءل عن غياب الفرد الإماراتي عن المشاركات الإعلامية والاجتماعية والثقافية في المنطقة، وعندما تكون هناك مناسبة ما فإن الأسماء الإماراتية نفسها تتكرر كل مرة. قلتُ له إن الإمارات تزخر بالمبدعين والمثقفين.
ولكن إحجام أبناء وبنات الإمارات عن المشاركة في الحراك الفكري والاجتماعي، داخلياً وخارجياً، يعد أزمة اجتماعية حقيقية، سببها، رُبّما، خجل غالبية أفراد المجتمع من إبداء آرائهم أمام الملأ، وربما يكون السبب هو عدم اكتراثهم بالتعبير عن أنفسهم للآخرين. يحرص الإماراتي دائماً ألا تُغضب آراءه أحداً، ولا أعني هنا آراءه السياسية، ولكن وجهة نظره تجاه الحياة والأفكار الإنسانية، ولذلك فإنه يُفضّل أن يكون مستمعاً على أن يكون متحدثاً.
ينطبق هذا الكلام على العمانيين والقطريين أيضاً، وهو ما أسميه «مثلث الخجل الخليجي»، حيث يمكنك في زيارة واحدة إلى البحرين أو الكويت أو السعودية أن تتعرف إلى تفاصيل المجتمع بسهولة بمجرد حضورك لمجلس ما أو اجتماعك ببعض المواطنين هناك، أما غالبية شعوب مثلث الخجل فإنهم يحرصون على عكس صورة إيجابية «فقط» عن مجتمعاتهم، حتى يظن المستمع إليهم بأنهم يعيشون في المدينة الفاضلة.
زرتُ الدوحة قبل مدة، وعندما تحدثتُ إلى مجموعة من القطريين اكتشفتُ بأنهم يستخدمون الأسلوب الإماراتي والعماني نفسه في التعبير؛ حيث كل شيء على ما يرام، وعندما تنظر إلى قناة الجزيرة فإنك تجد بأن معظم القطريين العاملين هناك يجلسون خلف الشاشات، لا أمامها.
ادخل إحدى المراكز التجارية في الإمارات أو قطر، وستجد بأن الجميع يمشي في كامل أناقته وكأنه في زيارة رسمية، وقلّما تجد من يتجول على سجيّته دون أن يكترث للساعة التي تلف معصمه أو الحذاء الذي ينتعله. إن المبالغة في الأناقة المفرطة طوال الوقت توحي بأن هناك إرباكاً نفسياً تعاني منه بعض مجتمعاتنا، وقد يغضب كلامي هذا كثيراً من الناس، ولكنها الحقيقة، وعلينا تشخيصها ثم علاجها.
أما في عُمان فلا نكاد نعرف أسماء الرموز الثقافية والفكرية، على الرغم من وجود شريحة عريضة من المثقفين العُمانيين في مختلف التخصصات، ولكنهم يُحجمون، كالإماراتيين والقطريين، عن الكتابة بجرأة والتعبير عن آرائهم بصراحة تامة، حتى وإن أغضبت فئات أخرى في المجتمع. لا نعرف كثيراً عن الإعلام العُماني، حتى الصحف العمانية لا نعرف أسماءها، على الرغم من قربها منا، وقد يكون مستحيلاً على أحدنا أن يذكر اسم ممثل عُماني أو مقدم برامج مشهور.
وفي المقابل، هناك فئة جديدة بدأت بالبروز في المجتمع، في الإمارات وقطر على وجه الخصوص، تتمثل في طلبة وخريجي الجامعات الجدد الذين يُشاركون بجدية في برامج اجتماعية تطوعية. فقبل أيام نزل مئات من الشباب والفتيات إلى شوارع دبي لتنظيفها من المخلفات التي تراكمت فيها جراء الاحتفال بالعيد الوطني.
وفي الدوحة أطلقت مجموعة من الفتيات مبادرة سموها «تنوين»، حيث تزور المتطوعات المكتبات ومراكز الأطفال ليقرأوا لهم ويشجعوهم على القراءة، وفي كل احتفال يشارك هؤلاء الشباب والفتيات الجدد في التنظيم وفي الاستقبال وفي الإعداد والتقديم. هؤلاء يقولون آراءهم بصراحة وجرأة في «تويتر» و«فيسبوك» وعلى مدوناتهم الشخصية، ليسوا صداميين ولا محاربين لقيم المجتمع، ولكنهم لا يأنفون من الاختلاف مع الآخرين باحترام وبأدب.
إن المجتمعات الحية هي التي يتجاذب فيها أفرادها الرأي والأفكار، فيتفقون في بعضها ويختلفون في بعضها الآخر، وهي التي يُبدون فيها آراءهم بوضوح وجرأة وحيادية. هذه ليست دعوة إلى النزول للشوارع، ولكنها دعوة إلى المشاركة الفاعلة في تنمية المجتمع ونقده بصورة بنّاءة. تقول الحكمة: «الحياء في غير موضعه ضعف».
– البيان