علي عبيد
لأن المشهد كان مزيجا من الملهاة والمأساة في آن واحد، فقد افتقدنا الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، في مؤتمر القمة العربي الأخير الذي انعقد في الكويت الأسبوع الماضي.
كان العقيد القذافي فاكهة مؤتمرات القمة العربية على مدى عقود من زمن هذه القمم، وكنا نعتقد أن القذافي يأتي بالتصرفات التي كنا نشاهدها في مؤتمرات القمة العربية، لمجرد لفت الانتباه والظهور الإعلامي، أو لتقمص شخصيات بعض الزعماء المعروفين بتصرفاتهم الغريبة، أمثال رئيس الاتحاد السوفييتي الأسبق “نيكيتا خروتشوف”، الذي اشتهر بخلع حذائه والتلويح به أمام الجميع في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1960، قبل أن يقوم بوضع الحذاء على الطاولة.
وهو ما حاول العقيد القذافي محاكاته في دورة عام 2009، عندما حضر بخيمته إلى نيويورك، وقام بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة في حضرة أعضاء الجمعية العامة، وأصاب مترجم خطابه بانهيار عصبي استدعى نقله إلى المستشفى، لطول الخطاب واستعصائه على الترجمة.
كنا نعتقد أن ما كان يأتي به العقيد القذافي من تصرفات، إنما هو نوع من الفانتازيا لا تعبير عن الواقع، ولكن يبدو أن الواقع كان أكثر غرابة من الخيال، وأننا جميعا كنا على خطأ، بينما كان العقيد القذافي الذي ذهب ضحية نزواته الجامحة على حق، سواء فهم المشهد على حقيقته، أو فهمه بعقليته التي أودت به إلى المصير الذي آل إليه.
لكن الذي لا يساورنا فيه شك، هو أن القذافي كان سيتألق لو أن العمر امتد به فبقي على رأس السلطة في بلاده ليحضر القمة العربية الأخيرة، ويستمع إلى القرارات التي توصلت إليها، والتي لم تخرج عما اعتدنا سماعه في مؤتمرات القمة العربية منذ عقود لم نعد نحصي عددها.
إذ لم تضف هذه القمة جديدا في إعلانها، فرفض يهودية إسرائيل وتحميلها مسؤولية تعثر عملية السلام، إنما هو هروب إلى الأمام، والهروب إلى الأمام غالبا ما يلقي بالضحية في حضن الجلاد ولا ينقذها منه.
ودعوة مجلس الأمن إلى تحمل مسؤولياته تجاه الأزمة السورية، إنما هو تملص من تحمل الدول العربية لمسؤولياتها تجاه هذه الأزمة التي تحولت إلى كارثة، المستفيد الوحيد منها هو إسرائيل التي نحمّلها دائما أوزارنا، أما الخاسرون فهم كثر.
وأولهم الشعب السوري الذي تحول إلى مجموعة من النازحين داخل وطنهم، واللاجئين في أنحاء العالم، بعد أن تحولت أرض سوريا إلى ساحة للصراع على المصالح، وتصفية الحسابات، وخلافات الأديان والمذاهب والعرقيات.
قرارات هلامية محفوظة عن ظهر قلب، وأخرى يكتنفها الغموض، ومواقف متناقضة، مثل قرار التأكيد على مكافحة الإرهاب، دون أن يتم تحديد مصطلح الإرهاب نفسه، ولا تسمية الجماعات الإرهابية..
ففي الوقت الذي تسمي فيه مصر وبعض الدول الخليجية جماعة “الإخوان المسلمين” جماعة إرهابية، ترفض قطر ذلك، وتصر على فتح أبوابها وحدودها لأعضاء الجماعة الهاربين من مصر التي حولوها إلى ساحة لعملياتهم الإرهابية، ولا تتوانى عن دعمهم ماديا ومعنويا، وتخصص لهم قناة فضائية يهاجمون من خلالها النظام المصري.
كما تفتح قناتها الرسمية لرموز الإخوان كي يهاجموا الإمارات والسعودية اللتين تجتمعان معها تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي، من منطلق أنه “لا يليق أن يتهم كل من يفشل في الحفاظ على الوحدة الوطنية دولا عربية أخرى بدعم الإرهاب في بلده”.
على اعتبار أن للإرهاب مفهوما محددا، هو “استهداف المدنيين بالقتل والترويع، وضرب المنشآت المدنية لأغراض سياسية”، وكأن استهداف غير المدنيين، وضرب المنشآت العسكرية والأمنية من قبل الجماعات الإرهابية ليس إرهابا!
لهذا افتقدنا العقيد القذافي في القمة الأخيرة، ليذكّرنا بأجواء القمم العربية السابقة الأكثر حميمية، رغم كل المآسي التي كان يعاني منها وطننا العربي، بدلا من الوجوه المتجهمة التي شاهدناها، والنظرات المتشككة التي رصدناها أثناء إلقاء الكلمات.
افتقدنا العقيد القذافي، ليس لأنه الزعيم المنقذ الذي سينتشلنا من هذه الحالة الهلامية التي رأينا أنفسنا عليها في القمة العربية الأخيرة، ولكن لأنه كان الوحيد القادر على إخراجنا من حالة الملل والكآبة والحزن التي رأيناها مسيطرة على أجواء القمة.
فاليأس من القمم العربية ليس شعورا جديدا مرتبطا بهذه القمة على وجه التحديد، وإنما هو موروث قديم أصبح ملازما لكل القمم، منذ قمة “أنشاص” الأولى عام 1946 في الإسكندرية، وحتى آخر قمة عربية عقدت في الكويت الأسبوع الماضي.
إذ لم تختلف قرارات القمة الأولى كثيرا عن قرارات القمة الأخيرة، مع الوضع في الاعتبار التطورات التي حدثت على مدى ما يقرب من سبعة عقود من الزمن، والتحولات التي شهدها العالم والوطن العربي خلال هذه العقود السبعة، والوجوه التي ذهبت، وتلك التي أتت، دون أن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، ناهيك عن أننا تراجعنا خطوات كثيرة إلى الخلف.
في القمة العربية الأخيرة تمنينا أن نرى العقيد معمر القذافي، ليس لأنه المخَلّص الذي بإمكانه أن ينقذنا من الورطة التي نحن فيها، وإنما لأنه المشخّص الذي كنا نرى من خلاله المهزلة التي نعيشها.
وإذا كان ديننا الحنيف يحثنا على ذكر محاسن موتانا، فقد كانت هذه واحدة من محاسن العقيد القذافي، مع الاعتذار للشعب الليبي الذي عانى من مساوئه، في زمن أصبحت المحاسن فيه عملة نادرة نبحث عنها فلا نستدل عليها، وأصبح الأمل فيه حلما نبحث عنه في كل المحافل فلا نجده.
– البيان