مريم الساعدي

علاقتي مع عالم الحيوان أثيرة، أعالج به خيباتي من عالم البشر، وهي كثيرة. أحمد الرب كثيراً على قنوات الطبيعة البرية، وربما تكون لـ «الناشيونال جيوغرافيك» العربية من أهم إنجازات أبوظبي للإعلام في السنين الأخيرة. أحدق لساعات في أسراب الطيور المهاجرة وقطعان الثيران المهيبة وتلك الأسود الضارية لتعيش وليس لتفترس. وقد أغرق في بحر مظلم تسبح فيه فقمة تبحث عن طريقها على أنغام موج هادئ يأخذك بعيداً عن ضوضاء الحياة اليومية الآكلة للروح. رغم ذلك ظللت دوماً أخشى الاقتراب كثيراً من الحيوانات، احتفظت بمساحة بيني وبينها، أحبها ولكن من بعيد. أخاف ملمسها، وأرتعد لو تحرك بقربي حيوان ما كمن مسّه ماس كهربائي. لأني لم أنشأ في طفولتي بينها، لم تكن لي تجارب مقربة معها، لم يكن لي قط أليف وكلب نظيف أو طير أداعب منقاره وأنا أطعمه، حتى حين نذهب في زيارة إلى حديقة الحيوان كنا نتفرج من بعيد من خلف قضبان كثيرة. ظل الحيوان في لاوعيي كائناً غير مأمون العواقب، يمكن أن يقفز فجأة ويعضني، وستكون عضة مؤلمة. حين كبرت عرفت أن الإنسان أكثر خطراً أحياناً وعضته قاتلة، لكن لما يُحفر في اللاوعي أثر دائم صعب أن يزول.

أطفال هذه الأيام سيكون لهم حظ مختلف، فهم ينشؤون في عالم بلا حواجز، يتجه الطفل إلى الحيوان بكل بساطة ويتعلم من خلال التعامل معه المسؤولية والرعاية والحنان والقرب من كائن آخر والصداقة وحس الدعابة والضحك وبساطة الفرح وعبقرية اللعب وحلاوة الطفولة، تتحرر الشخصية في الصغر وتنبسط النفس فتصير أكثر مرونة على التعامل مع مطبات الحياة واجتياز صعابها في الكبر. شعرت بذلك في زيارتي الأخيرة إلى حديقة الإمارات للحيوان في منطقة الباهية في أبوظبي، شعرت بالجو المختلف، بالألفة مع الطبيعة، بتلك الحياة التي يبثها الحيوان في نفس إنسان مرهق. يجري الحيوان الصغير بين الممرات في ساعة حرية عند المساء، وكان الأطفال حوله يتمشون بثقة فيما قفزت أنا هاربة.

اللافت أن هذه الحديقة الجميلة المتكاملة التي تهيئ للحيوانات بيئة ملائمة طوال السنة آخذة في الحسبان البيئة الأصلية لكل حيوان، جاءت بمبادرة شخصية تماماً وتمويل كامل من مواطن ارتأى أن يضع أمواله في خدمة مجتمعية عوضاً عن استثمارها في مشاريع تجارية تدر عليه الربح المباشر وتضاعف رصيده الشخصي في البنوك. اعتدنا أن تكون هكذا مبادرات شأن الحكومة فهي من يوفر للمجتمع احتياجاته، ولكن حديقة الإمارات للحيوانات جاءت رمزاً لروح المبادرة الفردية في تقديم خدمة مجتمعية. لو كل مواطن مقتدر نظر حوله في منطقته وقرر ما ينقصها ولم ينتظر مشاريع البلدية والخطط الحكومية بل قام هو بتوفير فكرة ما هدفها الأساسي تقديم خدمة تثقيفية تعليمية تنويرية تصب في مصلحة المجتمع وليس بالضرورة في جيبه المباشر، لكان مصطلح منطقة نائية قد اختفى من الخريطة الآن.

حديقة الإمارات للحيوان هي ملجأ سلام حرص صاحبه على إنشائه بكل عناية واهتمام وإتقان كأنه منتجعه الشخصي. فقدم للكبار متنفساً وللصغار بيئة تعليمية مثيرة للاهتمام، ولأبوظبي الحبيبة وجهة سياحية جديدة. الحدائق متنفس المدن، ولو أنشأ كل مقتدر حديقة لصارت الصحراء أثراً بعد عين. هي روح مبادرة تستحق الإشادة، وروح المبادرة درجة متقدمة من درجات الحس الفردي بالمسؤولية العامة.

في العالم المتقدم يهتم الإنسان بالحيوان، وبغض النظر عن السياق السياسي وقيمة الإنسان، أفكر ربما لو أنشأ الجميع علاقة صحية مع عالم الحيوان لأصبحت العلاقات بين البشر صحية أيضاً، ولما قفز أحد بفزع في لحظة غروب مسالمة من أمام حيوان صغير يلعب.

– الاتحاد