علي أبو الريش

النخلة مقلة وقبلة، وسنبلة في عنق السماء، ورحلة في وجدان الناس، وجديلة على كتف الأرض، وخميلة في وعاء القلب، النخلة، مفصل الجدل ما بين التربة والترائب، ونصل الأشواق المحدقة في عناقيد الحياة، ومظلة تخبئ ثياب الشمس في قماشة اللهف والكلف.. النخلة في الوعي، قامة واستقامة ومقامة، واستدامة، وأحلام الذين قيضوا في اللظى، متحفين بطيور الصيف، وهي تغرد على القمم الشم، وتعلن للمصيفين أن في التلافيف تسكن قطرات الندى معبَّقة بعطر العذوق، الناهدة مترقرقة، ما بين حواجب الشجرة النبيلة، مخبأة في عروق الأرض..

النخلة ونحن نحتفي بها، وتضع لها الحواجز والحوافر، لأنها في المكان، صوت وفي الزمان صيت، وفي التاريخ دورة دموية تجري في الوريد والشريان، وتلون الجباه بلون المجد والسد، والعهد المديد.. النخلة نحتفل بها، لأنها في القلب وجد، وفي العقل مجد، وفي النفس وعد، وفي الروح، ريحانة الأيام والأحلام ومنبت العشب ولذيذ التعب .. النخلة ونحن نضعها ما بين الرمش والحاجب، لأنها الكحل، والأمل، ومرآة الصباح، ونشيد الغارفات من الشوق، جنوناً ومنوناً، الكاسيات من عذوبة ومهابة ونجابة الذاهبات في معنى النخلة عشقاً وشغفاً..

النخلة، ونحن نقلدها الوسام والحزام، والخزام، والسنام، والمقام، لأنها صورة الأنام، في الهوى ووجه النهار حين يكون النهار، منطقة في بؤرة العين، ونوراً على سطح اللجين .. النخلة تهفهف اليوم، على جبين الأرض المباركة، ريَّانة ملآنة بخصوصة الإرادات والعزائم، المترعة بالطموح .. النخلة تخرج من صلب التاريخ من دفاتر القيم الرفيعة لتبعث برسالة فحواها .. أن على الجيل الجديد، أن يأخذ من جذوع النخل صلابة، ومن جدائلها الخضراء مهابة، ومن لآلئها الصفراء، نجابة، ومن عبير محيطها الأبدي، عطراً وفخراً، وذخراً، ونهراً لانثيالات كدة وكدحة، وفرحة .. النخلة في البدء رطب جني، وما بين الفواصل حزام الأمان والاطمئنان يمنع غاشية الأيام، ويردع عواتي الزمن .. اللهم احفظ النخلة، ومن يرعى جذعها وفرعها وينعها..