عائشة سلطان
نكون صغاراً فنتوق لأن نكبر سريعاً، وحين نكبر نبعثر الأيام في البلادة والتفاهات معظم الوقت، ندرس ونتعلم ونتخرج وسرعان ما نجد أنفسنا وقد تخرجنا وصار بين أيدينا شهادة (كبيرة) ذلك يعني أنه لابد من البحث عن عمل، عن وظيفة، عن دخل، تمضي الأيام بسرعة البرق، وفي لحظة تهتز كل الأفكار والقناعات، الحياة لا تبقى بالدفء الذي كنا فيه، ففيها كل ما يزعزع تلك المسلمات التي تربينا عليها، في أماكن العمل نبدأ في تكوين قناعات جديدة تختلف عن تلك التي راكمناها في المدرسة والجامعة، لم تعد الحياة بريئة ولم يعد الأصحاب طيبين ولم تعد القلوب بسيطة كما كانت! يصير علينا أن نتحمل عبء أنفسنا وهي حقيقة مزعجة جدا، لكن البعض منا يأخذها بجدية أكثر مما يجب حين يضيف إليها أعباء كثيرة فيتحمل مسؤوليات الجميع ويصبح متخماً بالأعباء وكأنه يعيش نيابة عن الآخرين!
تمضي بنا الحياة فنعرف ونصادق ونحب ونكتشف ونسافر ونصدم ونقع ونقوم مئات المرات، ولكننا غالبا ما لا نتعلم من كل ما يعبر بنا، نظل في نهار العمر البهي تواقين لركوب كل السفن ولخوض غمار معظم البحار، نقرأ نزار قباني في مراهقتنا فنؤمن بنظرية العشق وندرس دواوينه أكثر مما ندرس كتبنا المدرسية، نحفظ أشعار أبي القاسم الشابي ومحمود درويش وسميح قاسم فنتحول ثوارا بلا بنادق ولا تجارب، نحب تشي جيفارا ونعلق صورته الشهيرة في غرف نومنا، وندس روايات نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس تحت الوسائد، وحين تواجهنا الحياة بقسوتها ووجهها الآخر نكبر قبل الأوان ونردد الحكم والأمثال مثل العجائز ثم نتهافت على كتب جارسا ماركيز وباولو كويلو، العمر يمضي ونحن نتسكع بين القنوات الإخبارية ومانشتات الصحف نلهث بحزن وحنق وغضب، نتعلم الحقد قبل الأوان ونراكم الخيبات نهارا ثم نجلس مساء على أسرتنا نعدها خيبة خيبة، نغطيها معنا وننام في صحبتها!
نكتشف لاحقاً أننا ارتكبنا حماقة كبرى حين كبرنا وحين تمنينا أن نكبر، نندم على ذلك لكننا لا نملك آلة الزمن التي تعيدنا للطفولة كما كنا نتابع في ذلك المسلسل الإنجليزي الذي يتنقل فيه الممثل بين أزمنة وأمكنة عبر آلة الزمن، ونتذكر أننا لم نكن نعي تلك الفكرة جيدا – فكرة التنقل عبر الزمن – بل كنا نضحك من تفاهتها، أو سذاجتها، لكننا في لحظة ما نتمنى لو نملك آلة مثلها، ولأننا نعلم أننا لن نمتلكها، نفتح حافظات الصور التي التقطت لنا ونحن صغار، ونتذكر أن عندنا مخزونا من صور أيام المدرسة والجامعة والرحلات المدرسية واجتماعات الأصحاب، نخرجها من الأدراج ونصير نفتش في التفاصيل، نبتسم ونضحك كمن استعاد كنزاً أو حظي بهدية قيمة، نحن ننتقل عبر الزمن عبر تلك الصور لذلك نعود إليها كثيرا، نعيش طفولتنا ومراهقتنا ونزقنا وشقاوتنا وفرحتنا الحقيقية ونستعيد وجوه أصدقائنا ونتذكر أشكال وألوان ثيابنا ونقاء بشرتنا وبراءة أعيننا، نضحك كثيرا ونقول: لماذا كبرنا؟ وكأننا لم نتمن يوما أن نكبر!!
لا تصير الأماكن والمدن وأجمل بقاع الأرض تعنينا في ذاتها أو تشكل ذلك الإغراء والبهجة التي كانت أو كما كنا نعتقد، قلوبنا قد امتلأت حتى فاضت بالأمكنة والأصوات والمسافات والأسفار، يصير الأصدقاء هم الحكاية الأهم، هم أو الكلمة في سطر الرحلة وأول الحرف في كلمة الترحال، يصير الفرح مع أصدقاء بعينهم هدفا مختلفا وفلسفة كبرى، ويتذكر الصغار أنهم كبروا وأنهم ندموا على أنهم لم يبقوا أطفالاً كل الأصدقاء في نظرهم طيبون جداً!
– الاتحاد