جلال عارف
قبل أيام من الانتخابات كان بعض السياسيين الأميركيين يتحدثون عن ربع قرن قادم أو أكثر من السيطرة «الديمقراطية»، أي سيطرة الحزب الديمقراطي على الحياة السياسية في أميركا، وليس فقط على الرئاسة التي كانوا يظنون أنها محسومة لكلينتون! بل أيضا على الكونغرس والمناصب المؤثرة وفي مقدمتها المحكمة العليا.
كان الرهان طبيعياً في نظر الكثيرين، فالحزب الجمهوري بدا مهلهلاً ومنقسماً على نفسه، والمرشح الذي يخوض الانتخابات باسمه يدخل في معارك مستمرة مع قياداته، واستطلاعات الرأي تميل لكفة الديمقراطيين. ووسائل الإعلام الرئيسية معهم.
لكن الزلزال وقع. فاز ترامب بالرئاسة، وفاز الجمهوريون بالأغلبية في مجلس الشيوخ والنواب، وبمعظم حكام الولايات التي شهدت انتخابات على هذا الموقع. وأصبح على العالم أن يتعايش لأربع سنوات على الأقل، مع وجه آخر لأميركا، ومع إدارة أميركية لا أحد يستطيع أن يتنبأ بما ستفعله، ومع انقسامات خطيرة في أقوى دولة في العالم لا تشق المجتمع فقط، ولكن الخطورة أن تنتقل إلى المؤسسات الراسخة التي تشكل العمود الفقري للدولة التي تقود العالم.
محاولة تحميل الإعلام الأميركي -أو استطلاعات الرأي التي رجحت فوز كلينتون- مسؤولية الهزيمة؛ هي محاولة غير صحيحة. أما وسائل الإعلام -خاصة الصحف الرئيسية الجادة- فلم يكن موقفها ناتجاً عن دعاية رخيصة أو تزييف للحقائق، وإنما كان الأمر -في غالبيته- تعبيراً عن مخاوف النخبة المثقفة من ظاهرة «ترامب» التي انفجرت في وجه الجميع، ومن الآراء المحملة بالعنصرية والكراهية التي ينشرها في دعايته واكتسح بها الانتخابات الداخلية في الحزب الجمهوري.
كما كان الأمر تعبيراً عن إدراك من هذه النخبة المثقفة أن كلينتون -رغم الضعف السياسي لمنافسها ترامب- فإنها غير قادرة على المواجهة بالقدر الصحيح، وأنها تحتاج للدعم.. ليس إيماناً بقدراتها، لكن خوفاً من نتائج سيادة تيار «الترامبية» في السياسة الأميركية.
كان اختيار قيادات الحزب الديمقراطي كلينتون مرشحة للحزب خطأ كبيراً من هذه القيادات التي لم تحسن قراءة التغييرات الكبيرة في المجتمع الأميركي، التي تصورت أن التفاف قطاع كبير من الأجيال الجديدة ومن ممثلي الطبقات الوسطى في الحزب حول السيناتور «ساندرز» هو مجرد إعجاب طارئ بشخصية الرجل، وليس تعبيراً عن آمال حقيقية في التغيير، وعن انهيار نفوذ «المؤسسة» التي تحكم الحزب (وباقي المؤسسات المماثلة) على الجزء الأكبر من الرأي العام.
تجاهلت قيادات الحزب الديمقراطي ما مثلته ظاهر «ساندرز» الذي طرح برنامجاً للإصلاح من أجل مجتمع أميركي أكثر عدلاً وأقل خضوعاً للاحتكارات، ومن أجل نظام عالمي للاقتصاد والتجارة يحقق مصلحة الشعوب وليس مصلحة الاحتكارات العالمية، واختارت قيادات الحزب الديمقراطي أن تنحاز لهيلاري كلينتون باعتبارها امتداداً للمؤسسة الحاكمة الحالية، ومستفيدة من خبراتها السابقة والدعم الكبير الذي يمكن أن تلقاه من الممولين الكبار للحملات الانتخابية.
وتناست قيادات الحزب الديمقراطي نقاط الضعف الكثيرة لدى كلينتون، سواء في ذلك أخطاؤها السياسية أثناء توليها مواقع في الإدارة أو في الكونغرس، أو ما لحقها من اتهامات بالفساد، أو النظر إليها باعتبارها امتداداً لحكم أوباما، والأخطر هو هذا الحاجز بينها وبين الجماهير، والذي لم تستطع كسره رغم ما تتمتع به من قدرات سياسية ومهنية ناجحة.
ورغم ذلك فقد كان المفروض أن تستفيد كلينتون من الحظ الذي جعل منافسها هو ترامب بتواضع تاريخه السياسي، وبفضائح كثيرة مالية وأخلاقية تحيط به، وبانفضاض النخبة المثقفة عن بعض التصريحات الداعية للعنصرية والكراهية التي أطلقها في حملته.
لكنها لم تستفد من كل ذلك، بل استطاع «ترامب» أن يستدرجها إلى ملعبه، وأن يغرق الحملة الانتخابية في مستنقع الفضائح وتبادل الاتهامات الشخصية، لتغيب القضايا الأساسية والبرامج الانتخابية عن المعركة، ولتغيب عن المواطن الأميركي أن المرشح الذي يقول إنه قادم من خارج «المؤسسة» ليضرب الفساد الحاكم في واشنطن، لا يقدم بديلاً حقيقياً (كما فعل المنافس الديمقراطي السناتور ساندرز على سبيل المثال) وأنه يكتفي بترديد الشعارات.
واستغلال النقمة المتزايدة على النظام الحالي لدى العديد من الفقراء، واستغلال مشاعر الخوف لدى الأميركي الأبيض من تزايد أعداد الأقليات من السود واللاتينيين والعرب وغيرهم، واستغلال موضوع الإرهاب (الذي هو في الأصل صناعة أميركية!) لزرع الكراهية ضد المسلمين.
والمفارقة الآن أن زلزال الانتخابات أوصل الحزب الجمهوري الذي بدا ممزق الأوصال أثناء المعركة الانتخابية إلى السيطرة الكاملة على الإدارة والكونغرس، بينما الحزب الديمقراطي الذي بدا موحداً كما لم يحدث من سنوات عديدة خرج مهزوماً هزيمة ساحقة، بعد أن فقد أصوات أكثر من عشرة ملايين من أنصاره لأنهم لم يقتنعوا بكلينتون، ولأنهم فقدوا الثقة بين قيادة الحزب.
ولأن الكثيرين منهم كانوا يرون أن ساندرز هو الأجدر بخوض المعركة بروح التجديد الصحيح الذي يمثله، والقادر -بنزاهته ووضوحه- على فضح أطروحات ترامب، وعدم الانجرار (مثلما فعلت كلينتون) إلى المعارك الشخصية التي أضاعت فرصة عرض البرنامج الجيد الذي كان يمكّن بالفعل الديمقراطيين.
ويبقى الأمل في أن نكون قد تعلمنا (في عالمنا العربي) أن الرهان الوحيد الذي يحفظ مصالح الأمة و«الرهان على العمل العربي المشترك»، وليس على القوى الخارجية مهما كانت.
أكثر من أي وقت مضى، نحتاج إلى تقوية التحالف بين مصر ودول الخليج العربي، وأكثر من أي وقت مضى نحتاج لرؤية مشتركة للتعامل مع عالم مقبل على تغييرات هائلة ستتجاوز أميركا بكثير، ولن تأخذ في الاعتبار إلا مصالح الأقوياء.
البيان