لم يتوقف النقاش يوماً، عربياً وعالمياً، حول مفهوم المثقف، ودوره في تشكيل المجتمعات البشرية وصناعة التحولات التاريخية فيها، خاصة في منطقتنا العربية التي تشهد تراجعاً ملحوظاً في حضور هذا «المثقف» الذي نؤمن به «كفاعل اجتماعي» يتمايز عن غيره في قدرته على «إنتاج المعنى» عبر انخراطه في أتون الهموم العامة لمجتمعه، فيحرك جمود الساكن فيه، لا يتغير تحت مطرقة «قانون التطور التاريخي نفسه، كونه صانعاً للمعنى والموجه له، وليس صنيعة التاريخ يتبدل بتبدلاته».
واليوم في ظل الاتجاه الكبير نحو العوالم الافتراضية (الرقمية)، واكتساح المعرفة الإلكترونية المتدفقة كالسيل الجارف، أبدعت وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، آنستغرام) مصطلحاً جديداً لمفهوم «المثقف» يختص بعالمها، له ملامحه، وصفاته، وأخلاقياته، يسمى بـ (المثقف الشبكي) كقوة فاعلة على مستوى تبادل الإنتاج المعرفي، وتوزيعه، وتسويقه، وفق أدوات جديدة، لها جيل جديد أيضاً، يسمى بالجيل الديجيتالي أو الإلكتروني. إذن، من هو المثقف اليوم، وهل تغير دوره في عصر الديجيتال والمعرفة الإلكترونية؟
«الاتحاد» طرحت السؤال على فئة من الشباب، ممن يحرثون في أرض الكلمة، كونها الأكثر تمثيلاً في خريطة استخدامات منصات التواصل، وسيكون لها تأثير في تبني الأدوار المستقبلية لمفهوم المثقف ودوره.. فماذا قالوا؟
يقول الكاتب الإماراتي الشاب محمد حسن المرزوقي:
أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من التحولات الثقافية، أهمها ربما، هو منح جميع البشر منابر للتعبير عن آرائهم، بغض النظر عن خلفيتهم الثقافية وتكوينهم المعرفي، فلأول مرة في التاريخ البشري، أصبح رأي الشخص العادي مهماً، بقدر رأي الشخص المثقف. هذه الحرية بغض النظر عن سوء أو حسن استخدامها، أثارت غضب الكثير من المثقفين التقليديين، إلى درجة أن الإيطالي «آمبرتو إيكو» عبر عن تذمره منها قائلاً: «وسائل التواصل الاجتماعي مثل (تويتر وفيسبوك) أدوات تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممّن كانوا يتكلمون في البارات فقط، دون أن يتسبّبوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل.. إنه غزو البُلهاء».
والغريب أن هذه العبارة أصبحت مثل تعويذة سحرية، يتناقلها الكثير من المثقفين الساخطين على وسائل التواصل الاجتماعي، دون أن يتوقفوا ولو قليلاً عند دلالاتها، وكأنه لا يحق الكلام إلا للمبدعين من حملة الجوائز!!. وعلى ما في ذلك من مصادرة واضحة للآراء، فهي كذلك تصفهم بالحمقى والبلهاء، ومن يرددون هذه العبارة يرون بأنهم منزهون عن هذه الحماقة وإلا ما تحدثوا؛ فلا إيكو ولا المصفقين لعبارته من حاملي «نوبل»!!
ويتابع المرزوقي قائلاً: فيما مضى جرى تسويق مصطلح المثقف «على أنه الشخص الذي يعرف كثيراً، أو الشخص الذي يعرف شيئاً من كل شيء»، ولكن مع ثورة الإنترنت، والانفتاح المعلوماتي، أجد أنه من الصعب الإصرار على التمسك بهذا التعريف، فالثقافة اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، هي موقف أخلاقي، وإنساني. أما المعرفة، والعلوم فليست سوى أدوات داعمة لها.

من جانبها تقول الكاتبة صالحة عبيد:
كلما طرح هذا السؤال أعود للفرنسي «ميشيل فوكو»، الذي يرى أنه «ذلك الذي يختبر التغييرات المجتمعية المنشودة، في الوقت الذي يكتسب فيه هو ذاته تغييراته الداخلية الخاصة»، أي أنه يتغير مع الناس/‏‏‏‏‏ المجتمع/‏‏‏‏‏ وضمنهم، وليس بمعزل عنهم. أما من هو المثقف اليوم؟ فأظن أنه المتغير، والمواكب على الأرض، وليس المكتفي بصف العبارات المنمقة أو المعارف، التي صار بإمكان أي شخص أن يصل إليها. إنه «المثقف التحليلي»، القادر على خلق صياغة جديدة لفهم ما هو رتيب، ومألوف، أو لما هو عصي عن الإدراك العميق، خصوصاً في ظل هوس التقنيات، الذي يوهم كثراً «بالمعرفة». فالمثقف هو القادر على إضفاء بُعدٍ جديد للفلسفة الحضارية في نطاق مجاله التخصصي إبداعياً، وليس مثقف «الزهرة من كل بستان» الذي سيفشل عند أول اختبار فكري/‏‏‏‏‏ تحليلي عميق.

نهاية الدور القديم
ويشير الشاب غيث حسن، مؤسس نادي الأدب الروسي الإلكتروني، إلى أن «هناك انتقاداً شائعاً، بأن المثقف هو شخص مغرق في التنظير، ويقول كلمات يصعب ربط بعضها ببعض. يقول دون أن يُصغي. وأعتقد أنه لم يعد لهذا النوع المتصلب دور يلعبه في عصرنا هذا، حتى ولو بدا أنه يشكل نسبة كبيرة من حيث العدد بين جموع المثقفين، فهو يشكل غالبية باستمرار، الأمر الذي دفع «ميخائيل بولغاكوف» للاعتراف بأنه قد يصادف أحياناً بعض الأذكياء بين المثقفين!
ويضيف حسن: بالطبع، هناك أيديولوجيات ومؤسسات معينة وراء تنميط «صورة المثقف» إلى هذه الدرجة السطحية، غير أن هناك «مفهوماً خاطئاً» أيضاً وهو أن «الثقافة» مرتبطة بالمعرفة، وجرى بناء على ذلك، تسويق مصطلح المثقف على أنه الشخص الذي يعرف كثيراً. أما شخصياً، فأعتقد أن «المثقف، والثقافة» يرتكزان على قيمتين، الأولى: قيمة البحث عن الحقيقة، وعدم الادعاء بامتلاكها واحتكارها. والثانية، أن الثقافة هي في الالتزام بدعم القضايا الإنسانية، بموقف أخلاقي وإنساني، والمعرفة هنا مجرد أداة. ويمكن أن أختصر ذلك كله، وأستعير وصف «سارتر» للمثقف بأنه ذلك الشخص الذي يدّس أنفه فيما لا يعنيه، أي أنه ضد أي قالب، أو تنميط أو اختزال.
ويشدد عبد العزيز النظري، كاتب وباحث في الأديان، على أن صورة المثقف ودوره «تختلف باختلاف تغيرات الزمن. وكل شخص يعرّفها على ضوء ما تحصّل له من المعرفة»، وهو يأخذ على منصات التواصل الاجتماعي أنها «جعلت كل إنسان، ينظر لنفسه «كمثقف»، والتكنولوجيا أتاحت له هذه الفرصة، ووفرت له المنصة اللازمة لذلك. ولكن هل حقاً هو المثقف المقصود، أو المنشود؟!».
ويجيب: المثقف هو من يملك مشروعاً فكرياً، ولا يتعارض مع التفاعل الحر بين مختلف الثقافات، ويعرف ثقافة مجتمعه، ويتمثلها فكراً، وسلوكاً، ويعمل جاهداً لإظهارها، يدفع عنها عوامل الانهزام الذاتي، وأهمّها وضع سقف لها، فإن وجود سقف، يعني منعها من النمو، وما يمتنع عن النمو، فإن مصيره الهلاك بعد الجمود.

مسؤولية مضاعفة
بالنسبة للشاعر ناصر البكر الزعابي، لم يتغير دور المثقف عمّا كان عليه في السابق، سوى أنه«أصبح قريباً جداً من القارئ، ولم تعد هناك فجوات تفصل بينهما بفضل مواقع التواصل الاجتماعي، غير أن هناك بعض السلبيات التي أثّرت نوعاً ما على المثقّف، حيث انشغل بهذه المواقع بشكلٍ يومي، وأثّر ذلك على نتاجه الأدبي، وأحياناً يدخل المثقف في جدالٍ لا طائل منه…. وبعيداً عن هدفه الأسمى».
ويرى الزعابي أن«مسؤولية المثقف تضاعفت، وأنه المخوّل بالدفاع عن قيم ومبادئ الإنسانية أمام هجمة الموجات الغرائبية، والأفكار الهدّامة، التي اتخذت من منصات التواصل الاجتماعي، محطةً لنشر السموم الفكرية، وعليه فإن المثقف اليوم يحمل رسالةً أخلاقية في المقام الأول، وإبداعية في الأساس، وعليه ألا ينجر إلى صراعاتٍ وهمية، تستنزف من وقته، وجهده، وتسيء إليه أولاً وأخيراً. المثقّف بالنهاية هو ابن بيئته، وهو القلق المهموم بمجتمعه، وهموم مجتمعه».
ويطالب الكاتب محسن سليمان بضرورة الاعتراف بأن وسائل التواصل الاجتماعي «غيرت الكثير من المفاهيم، والأفكار، المتعلقة بمفهوم «المثقف» الذي أصبح أكثر شمولية، وتعددية معرفية، يأخذ ثقافته، وينميها من خلال تفاعله وانفتاحه على فضاء وسائل الإعلام الحديثة. لقد تغيرت قواعد اللعبة، وما عادت «الثقافة» تستمد من متون الكتب، وهذا ما نجده على وسائل التواصل الاجتماعي، فـ «المثقف» اليوم، يتحدث في كل شيء، ويُفتي في مختلف المعارف. لذلك نحتاج كجيل شاب، إلى المثقف «الرمز» الذي يلتفت إليه الشباب، لتقويم بعض الأفعال، والسلوكيات الدخيلة عليهم. نحن اليوم بحاجة ماسة إلى تلك العقلية التي تغير مفهوم الشباب، في طريقة تعاملهم مع هذا الطوفان المعرفي، نحتاج لمن يلهمنا في تنمية مهاراتنا، وقدراتنا الفكرية والعقلية بانفتاح وتنوع».

ماذا يقول أهل الاختصاص؟
تقول د. حصة لوتاه، أستاذة إعلام جماهيري:
بدايةً، جدير بنا أن نتذكر أن «المثقف» مسمى استعرناه، مثلما استعرنا مسمى «الثقافة» والعودة بالذاكرة لظروف، وزمن الاستعارة، ربما يعيننا على رؤية أكثر وضوحاً، في تحديد هذه المسميات، وصولاً لفهم التبدلات التي طرأت عليها بحكم الزمن وتطوراته. وبعض التلمس يحيلنا، ربما إلى ستينيات القرن الماضي، مع ظهور تيارات سياسية وثقافية، فرضت وجودها بوضوح في تلك الفترة، ومعها برز مسمى «المثقف» كشخص يمثل مرجعية معرفية ما، تختلف عن سواه، وظهرت أيضاً تصنيفات مثل «المثقف الملتزم»، الذي يتحدث عن قضايا عامة، وينخرط في مواقف سياسية، وظهرت الاتهامات الموجهة إلى «المثقف النخبوي» المقيم في قصره العاجي، بعيداً عن مجتمعه، وغيرها من التعريفات.بالطبع الزمن الذي نعيش فيه حالياً، ربما يحمل شيئاً من هذا الإرث، قليله أو أكثر قليلاً من قليله، ولكن هنا يجب أن نتساءل: هل نجد في تكوينات مجتمعاتنا العربية، مساحة نستطيع أن نستخدم فيها ذات المسميات؟ أو هل توافرت «للمثقف» تلك الفرصة كي نختبر مذاق تلك التسميات؟ أم أن انتشار المعرفة بكل أنواعها، وإن كان كثيرها سطحياً، وساذجاً في سطحيته، قد همش دور المثقف الذي نقصده كُمنتج للمعنى والمفاهيم؟ وهل نجد اليوم في المناخ العربي العام، مكاناً صالحاً للمسمى بـ «الثقافي» مساحات تحتوي أهل الفكر الجادين، وتعزز وجودهم، وتعلي من أدوارهم الفكرية؟ أسئلة نواجهها كثيراً، وهي التي تحتاج لعلاج جذري، كي تتضح الحدود الفاصلة بين تعمية التسميات مع حالة الفوضى المعرفية، وبين مدى القدرة على وجودها على أرض الواقع !!!
ويرى الأستاذ الدكتور نديم منصوري، أستاذ علم اجتماع التواصل في الجامعة اللبنانية، أن
الثقافة والمثقف، منتوج تاريخي، يصنعه الزمان والمكان، أي الفضاء الإنساني، بيد أن «السرعة» الفائقة التي شهدها العالم، جعلت المثقف «الكلاسيكي»، مثقفاً تقليدياً، لا يتماشى مع سرعة العصر، ليس لأنه يرفض ذلك، ولكن لأنه لم يستطع غالباً أن يكون على وتيرة سرعة هذا التحول نفسها، وعليه، نلاحظ أن المثقفين ليسوا مبرمجين دائماً على معدل سرعة التطور، والمواكبة نفسها، وقد تنتج عن ذلك فجوة بين المثقفين، شبكيين ولا شبكيين، وعقبة أساسية تتمثل بين الجيل، والزمن، الجيل الأول والثاني والثالث، والزمن السريع والأسرع والفائق السرعة.
من هنا، فإن الجيل الأول لم يعد هو نفسه الجيل الثاني الذي بات يمتلك معارف وخبراتٍ جديدة ومختلفة عن الجيل الذي سبقه، ونحن هنا لا نقارن بين المثقف الكلاسيكي والشبكي، بمقياس الأفضلية لواحد على الآخر، بل نرصد التفاوت، والاختلاف ببن المثقفين وبين الجيلين.
ويتابع منصوري: المثقف الشبكي هو مثقف جديد لا ينظر إلى الأشياء بحسب طبيعتها كأسلافه، بل حسب طبيعته هو، أي من خلال قيمه الخاصة الجديدة، فهو قد نشأ داخل الثقافة العالمية، وشرب من المعارف الافتراضية، وتشبّع من شبكتها العنكبوتية، فهو مثقف عابر للحدود يتواصل في نطاق واسع، ولا تمارس عليه سلطة إيديولوجية كالجيل السابق، بل سلطة ميديولوجية، تكرسها الوسائط الرقمية بجميع أشكالها.

الاتحاد