د. فاطمة الصايغ

هل تتعارض آراء النخب الثقافية بما يختص بقضايا المجتمع مع واقعنا المعاش ومع رأي النخب صاحبة القرار العام؟ هل صحيح أن النخب الثقافية تعيش في برج عاجي بعيداً عن الواقع وأن كثيراً مما تطرحه وتتبناه من آراء ومن مقترحات، ومن وجهات نظر النخب صاحبة القرار، غير قابل للتطبيق أصلاً، وإن طبق، له إفرازات سلبية أكثر سوءاً مما هو موجود فعلاً؟

هل هناك فجوة بين تفكير النخب الثقافية التي تطلق صرختها في وادي بعيد لا صدى له، وبين رأي النخب صاحبة القرار التي ترى أن الواقع الحقيقي يحتاج الى خبرة وتنازلات قد لا تعجب النخب الثقافية ولكنها ضرورية لبقائنا وللمحافظة على مصالحنا؟ هل تعيش هذه النخب التي هي جزء من واقع مجتمعنا وتحولاته في تناقض وفي صراع مع نفسها: أولاً لأنها جزء من هذا الواقع، وثانياً لأنها من المستفيدين منه؟

هذه الأسئلة وغيرها تطرح وتتداول بصورة دائمة في المحافل الثقافية والعامة والتي دائماً ما نجد في حواراتها الكثير من السخونة والمواقف العاطفية والآراء الحدية تجاه القضايا العامة كالتركيبة السكانية والتوطين والخصخصة وجودة التعليم وأهمية اللغة العربية، ولكن معظم مقترحاتها غير قابلة للتطبيق حالياً وبعيد عن أرض الواقع ولا يناسب ما تطمح اليه الدولة.

لنأخذ مثلاً قضية الخلل في التركيبة السكانية وارتباطه بهوية المجتمع وصيرورته. فمما لا شك فيه أن آراء، ليس فقط النخب الثقافية ولكن حتى عموم الناس، مجمعة على رأي واحد وهو ضرورة تقليص العمالة الوافدة حفاظاً على هوية المجتمع ولغته العربية وعاداته وغيرها.

هذا الرأي يوافقهم عليه الكثيرون في داخل مجتمعنا وحتى في الخارج، ولكن معظم الحلول المقترحة هي حلول إما وقتية وإما حلول غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع. فمن الملاحظ على مجتمع الإمارات أنه مجتمع رفاهية وخدمات سريعة، مجتمع قائم على التسهيلات، معتمداً على خدمات الآخرين.

وبحكم تلك الطبيعة، فهو مضطر للاعتماد على الكثير من العمالة الخارجية الغالية والرخيصة. فالكل في مجتمعنا معتمد على خدمات الاخرين كبرت مهنتهم أم صغرت اعتماداً متوازياً.

نحن في حاجة لعمال النظافة والى الخدم وال» المزارعين والى السائقين وغيرهم من ذوي الياقات الزرقاء، تماما كما نحن في حاجة الى خدمات العمالة الغالية كالأطباء والمهندسين وغيرهم من ذوي الياقات البيضاء. الجميع يطلب خدمة سريعة وفورية ومتميزة.

لذا فوجود أعداد كبيرة من العمالة ضروري لإنجاز مستوى متميز من الخدمات والحفاظ على تميزنا الوظيفي والإداري، والذى بدونه لن نصل الى المستوى التنافسي الذي نطمح اليه. هذا الوضع يقودنا يوماً بعد يوم الى استيراد عمالة أكبر لنواكب التطور الكبير والمستوى المتميز الذي نطمح له.

هذا الوضع ليس بعيب في عالم اليوم ولكن في عالمنا نحن خطير. فالعمالة المستوردة على الرغم من ضرورتها أصبحت ممسكة بمفاصل الاقتصاد، بدءاً من البقالة الصغيرة التي تبيع الاحتياجات اليومية مروراً بالمهن التقليدية كالزراعة والفلاحة وصيد السمك الى المهن الكبيرة كالبنوك وشركات التأمين وادارة الأصول المالية.

النخب الثقافية تحذر من تفاقم هذا الوضع وتحوله الى خطر محدق بنا بكينونتنا كوننا أقلية تتحرك ضمن دائرة أطرها واهية وكل حلولها لا تتطابق ولا تتناسب مع تطور واقعنا.

في الوقت ذاته ترى النخب صاحبة القرار بأننا نعيش في مجتمع متعولم له احتياجاته الكثيرة وخططه العملية واستراتيجياته التي توضع وترسم كل يوم وتتغير ليس فقط طبقاً لاحتياجات مجتمعنا ولكن طبقاً لاحتياجات وتحولات السوق العالمي.

لذا لامناص من هذا الوضع. وهكذا نظل ندور في دائرة. فلا النخب الثقافية قادرة على وضع تصور منطقي يناسب تطور واقعنا ولا النخب صاحبة القرار قادرة على النزول لمستوى رغبات وتطلعات النخب الثقافية وتحويل آرائها النظرية الى واقع عملي ملموس.

قضية أخرى تتبناها النخب الثقافية، آلا وهي موقفها الواضح من قضية الاحلال والتوطين. فعلى الرغم من أن التوطين أصبح مطلباً جماهيرياً واسعاً إلا أنه فعلياً يصطدم بعقبات كثيرة أهمها تواجد العنصر البشري الكافي وتواجد التدريب والتأهيل الضروريين واللازمين لتسير شؤون المجتمع.

فبدون هذين العنصرين يصبح التوطين عبئاً على الدولة الراغبة أصلاً في التخلص من البطالة المقنعة ومواكبة متطلبات سوق العمل بكل كفاءة وبإنتاجية عالية. وعلى الرغم من الحلول المقترحة من قبل النخب الثقافية الا أن تلك الحلول هي حلول نظرية لا يمكن تطبيقها. لهذا تصبح كل الحلول المقدمة غير مجدية إن لم تكن عملية واقعية تواكب المتغيرات الحاصلة في مجتمعنا وتناسب مصالحنا العليا.

هوية المجتمع ولغته وقيمه هي أيضاً من ضمن القضايا التي تتبناها النخب الثقافية، فانفتاح المجتمع الكبير على كافة الثقافات الوافدة أدى الى انطماس الثقافة الوطنية وتأثر اللغة والقيم المجتمعية تأثراً كبيراً. وعلى الرغم من أن هناك توافقاً بين النخب الثقافية والنخب صاحبة القرار على أهمية حماية هذه العناصر والحفاظ عليها من الاندثار الا أن الطرفين يختلفان في الحلول المقدمة وفي إمكانية التطبيق.

آراء النخب الثقافية بما يختص بقضايا المجتمع متعددة وعميقة ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد نقطة التقاء بين النخب التي بيدها القرار والنخب الثقافية. فما عدا تلك المجموعات التي تغرد خارج السرب، فإن النخب صاحبة القرار تريد الوصول الى أرضية مشتركة، لذا تجدها تشجع على إبداء الرأي وترى في آراء النخب الثقافية جساً لنبض الشارع وما يجري فيه من تحولات.

ولكنها في نفس الوقت ترى أن عليها مسؤوليات جسام قد لا تراها النخب الثقافية. هذا الاختلاف صحي وضروري ما دام أنه لا يؤثر على سبل الاتصال بين الطرفين وعلى المصالح العليا للمجتمع، الا أن وجود نقطة التقاء بين الطرفين وسبل للتواصل هو عملية ضرورية للمجتمع بأسره.

-البيان